أخبار المحروسة: واقعية جاذبية سرى السحرية سبقت اللاتينيين (1-2) | بقلم سيد هويدى


اخذتنى الدهشة فى واحد من المواقف القليلة التى حفرت فى الذاكرة، وظلت عالقة أتذكرها صوت وصورة، ورائحة، مهما مر عليها من أيام، ففى صباح زملكاوى (نسبة الى حى الزمالك) سمح اقترابى، لأول مرة مع بداية الثمينات من الفنانة جاذبية سرى فى أحد محلات بيع الألوان والأدوات الفنية، سماع حديثها مع البائع، اما مصدر الدهشة فكان الحوار المتبادل بين البائع والفنانة والذى قالت فيه جاذبية سرى انها على استعداد ان تفتح انبوب الألوان لتتذوقه، اذا اقتضى الامر اختبار جودة الألوان، فهل يصل العشق للفن والشغف بالألوان والتطلع الى الجودة الى هذا الحد؟ ام ان الابداع لا يتوفر لأحد إلا على نحو استثنائى، والاستثناء يتطلب اشتراطات وقدرات خاصة، وهو ما يمكن ان يفسر ابعاد مسيرة جاذبية سرى الحافلة بكل معانى التحدى والإصرار، على التفرد والتميز. فقد تعددت المحطات التى توقفت عندها والمراحل التى ارتادتها والمواقف الثورية التى تبنتها، مما اضفى على ايامها ثراء وغنى وعمق وتنوع، لكن ما هى الدوافع التى تجعل من لوحات جاذبية تعبر منحازة عن الطبقات الشعبية المهمشة المنسية المستبعدة؟ وهى التى تنتمى الى طبقة غنية لا تعانى معاناة الفقراء التى رسمتهم صادقة بود ويبدو للعيان انها ترتبط معهم بوشائج حب، هذا التساؤل ظل محورا ملحا لبحثى عن منطلقات عطاء الفنانة وأيضا افراد جيلها.


فى منتصف عقد العشرينات الذى شهد نهضة الطبقة المتوسطة، وكفاح سعد زغلول وإبداع محمود مختار، وتمرد حافظ ابراهيم، وموسيقى سيد درويش، ولدت جاذبية حسن سرى فى شهر العظماء اكتوبر، للأب يعمل فى سلك القضاء بعد حصوله على الدكتوراه فى القانون من فرنسا، الا انه تركها وغادر الحياة وهى فى الرابعة من عمرها، فاضطرت الى الانتقال للإقامة مع جدتها لأمها، بشارع نور الظلام بالحى العريق الحلمية الجديدة، وبمسحة من الأسى لم تستطع جاذبية إخفاءها تقول: كانت جدتى لأمى دقة قديمة، واعتمدنا ماديا على جدى لأبى وقد كان دكتاتورا، فشعرت بفجيعة فقدان ابى، الا ان اعمامى حاولوا جاهدين ملأ هذا الفراغ، فقد اطلعنى عمى مصطفى فى وقت مبكر على كتاب وصف مصر، بل كان يشرح لى جوانب تميز الفنان الحرفى المصرى ودقته.

اما عمها سامى فقد كان صديقا للفنان محمد صبرى الذى تولى توجيه الصبية جاذبية، فى الرسم على نحو اكاديمى، بالإضافة الى ترتيبه لرحلات تجمع اطفال بعض الاسر الى الملاهى والحدائق والمسارح وهو ما اثار وعى الاطفال باتجاه عوالم جديدة ومثيرة.


من رحم مجتمع القاهرة الليبرالى فى الاربيعينات تخرجت جاذبية عام 1948 فى المعهد العالى للبنات قسم الفنون الجميلة والذى كان يشغل موقعا متميزا فى حى بولاق ابو العلا العريق، وفى العام التالى حصلت على دبلوم التربية الفنية، لكنها لم تكتف بذلك بل استكملت دراستها العليا فى باريس مع مطلع الخمسينات، ثم فى روما وبعد ذلك بكلية سليد جامعة لندن.

لكن قبل السفر الى اوروبا وفى وقت استيقظ فيه العالم كله على نداء السلام بعد غفلة وويلات الحرب العالمية الثانية، وفى مناخ يتنامى فيه تيار عالمى يدعو الى بناء قواعد ومنطلقات جديدة للقيم، وقفت جاذبية فى صف التف حول المثال جمال السجينى عندما دعا الى جماعة صوت الفنان، ذلك الاسم الذى استعاره الفنان والناقد صدقى الجباخنجى عنوانا لمجلته، وأعطى للجماعة التى لم تستمر طويلا زخما اعلاميا كبيرا، وكانت جاذبية قد شاركت فى المعرض الاول والأخير للجماعة الذى ضم اكثر من 75 فنانا من شباب المجددين الداعيين الى التحرر من القيود الاكاديمية فى الفن فقط.

وعلى الرغم من عدم استمرار جماعة صوت الفنان الا ان جاذبية وزملائها سعوا الى تكوين كيان أكثر وضوحا من الناحية الفكرية هو جماعة الفن المصرى الحديث التى اقامت أول معارضها عام 1946 ومن أبرز أعضائها، حامد عويس، نبيه عثمان، جمال السجينى، وليم اسحق، عز الدين حمودة، يوسف سيده، زينب عبد الحميد، صلاح يسرى.


انطلقت الجماعة من قاعدة سياسية ايدلوجية يسارية حيث جاء فى كتاب 80 سنة فن لكل من رشدى اسكندر، كمال الملاخ، صبحى الشارونى التالى: "اذا كانت جماعة الفن والحرية ترتبطت بجماعة الخبز والحرية السياسة، فجماعة الفن المصرى الحديث كانت ترتبط بمنظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى السياسية"، والمعروف ان المنظمة عرفت فى الشارع السياسى باسم حدتو، ولهذا كان موقفهم الفكرى يميل للطبقات العاملة من المجتمع ويتبنى نضالها كفاحها من أجل حياة افضل. للدرجة التى دفعت البعض الى تلوين لوحاتهم باللون الاحمر حتى تتفق مع الشعار الذى اتخذته الاشتراكية العالمية.

اتخذ النشاط الفكرى والابداعى داخل الجماعة مسارين الاول استهدف الوصول الى ملامح شخصية مصرية مستقلة، وطابع قومى يميز الفن المصرى، لكن من خلال الاساليب الغربية الحديثة، ويمثل هذا الاتجاه عز الدين حمودة، يوسف سيده، زينب عبد الحميد، صلاح يسرى، أما المسار الثانى والذى اتسقت معه افكار وتوجهات جاذبية سرى فقد كان فنانى هذا الاتجاه يبشرون فى أعمالهم بالواقعية المصرية الحديثة فى الفن، وحرص افراده على البحث التقنى والجمالى فى اطار الالتزام بقضايا البناء الاجتماعى الوطنى، باعتبار الفن التشكيلى مكون اساسى فى الثقافة المصرية الشعبية، كموروث حضارى، للدرجة التى تصل الى ان يعلنوا عن طموحهم وهو التثقيف بالفن، كما اتخذ هذا التيار من داخل الجماعة موقفا رافضا من تقليد اساليب المدارس الفنية الحديثة التى تتجه الى تحطيم الجسد الانسانى كما فى الدادية السريالية والوحشية.


لذلك يعد معنى الالتزام احد مفاتيح شخصية جاذبية الابداعية، فدائما ما كنت ابحث عن الدوافع التى شحنت بها لوحاتها مع مطلع الخمسينات من القرن العشرين بهذا القدر من الفكر والفلسفة والطاقة المعبرة عن شرائح مجتمعية مهمشة، وغائبة عن انظار المخططين والسياسيين، فعلى نحو درامى غير مسبوق جسدت جاذبية لأول مرة شخصيات من لحم ودم تنبض وتتنفس ففى لوحة الفتيات والدمية جمعت بين رشاقة الرسم وواقعية التصوير عندما استطاعت ان تنسج من خطوط رسم الشخوص وحدة واحدة، وكأنهم كيان انسانى واحد .

اضف تعليق

أحدث أقدم

تحديثات