إسلام عباس في حوار خاص: تمثال "الملك لير" لم يكن عملًا فنيًا فقط.. بل رسالة وفاء

بين الفن والذاكرة، وبين الخيال والواقع، يقف الفنان إسلام عباس ليحوّل الحلم إلى تمثالٍ ينطق بالروح قبل الملامح... تمثال "الملك لير" لم يكن مجرد قطعة فنية، بل حكاية عشق للفن ووفاء لرمز من رموزه الكبرى.

في زمنٍ تتسارع فيه الفنون لتلحق بخطى التكنولوجيا، يظهر فنان يحمل بين يديه ذاكرة الفن ودفء الروح.

من داخل أروقة المسرح القومي، خرج إلى النور تمثال يجسّد عظمة “الملك لير” بملامح النجم الكبير الدكتور يحيى الفخراني، أيقونة المسرح المصري الحديث.

العمل الذي نفّذه إسلام عباس لم يكن مجرد مشروع فني، بل لحظة من الوفاء للمسرح، وانحناءة تقدير لجيلٍ صنع المجد على الخشبة.

بأبسط الإمكانيات، وفي وقت قياسي، استطاع أن يزرع في المكان روحًا جديدة.. تمثالًا من الصدق قبل أن يكون من خامات يدوية.

كان هذا الحوار معه، بين الفن والوجدان، بين الحلم الذي بدأ صغيرًاً .. والتمثال الذي صار شاهدًا على الإصرار .

خليني أبدأ معاك من الأول خالص فكرة تمثال الملك لير، كانت حلم شخصي جواك؟ ولا حد من إدارة المسرح أو المسؤولين عن العرض هو اللي اقترحها عليك؟

كانت فكرة التمثال تسكن ذهني منذ سنوات، ومنذ بدأنا التحضير لمسرحية الملك لير منذ عام تقريبًا، كنت أرى في خيالي ملامح الدكتور يحيى الفخراني مجسّدة أمامي في عمل فني ينبض بروحه وهيبته داخل الشخصية.

فكرة التماثيل ليست جديدة عليّ، فقد نفّذت أعمالًا مشابهة من قبل ضمن مشروع كايرو شو مع الأستاذ مجدي الهواري، وكذلك في مسرحية للفنان الكبير سمير غانم، غير أنّ التمثال آنذاك كان بشري .

حين قررت تنفيذ تمثال الملك لير، شاركت الفكرة مع الأستاذ أحمد شاكر حامد، مدير الإنتاج المالي بالمسرح القومي، والذي أعتبره أخًا كبيرًا أقدّره كثيرًا،

قلت للأستاذ أحمد: "أتمنى أن أقدّم تمثالًا مجسمًا كهدية رمزية ودعاية للدكتور يحيى الفخراني"، فشجعني على الفور قائلًا: "اعمله، ويكون هنا في المسرح".

أوضحت له أنّ التكلفة قد تكون مرتفعة، فاتفقنا على تنفيذ العمل بأقل الإمكانيات الممكنة، مستندين إلى خبرتي في تحويل البسيط إلى مدهش. فأنا أؤمن بأن الإخلاص للفن يُغني عن الرفاهية، وأن الجمال الحقيقي يولد من الإتقان لا من الكلفة.

كيف وُلدت فكرة تمثال "الملك لير"؟

الفكرة كانت شغفًا قديمًا.. كنت أتمنى دائمًا أن أقدّم عملًا يُخلّد رمزًا فنيًا مصريًا حقيقيًا. ومع “الملك لير”، وجدت المعنى الكامل للإنسان، للأب، وللفنان الذي يمزج القوة بالهشاشة. ومن هنا بدأت، من الرغبة في التوثيق بروح الفنان لا بأدوات النحّات فقط.

حدثنى عن أول خطوة في التنفيذ والخامات التي استخدمتها !

بدأت العمل على الماسك الخاص بملامح الوجه بخامات بسيطة كانت متبقية لديّ بُحكم عملي،نحتُّ الملامح كلها يدويًا، دون أي قالب مسبق، معتمدًا فقط على صورة واحدة من بوستر المسرحية، مستحضرًا من خلالها ملامح الشخصية بكل ما فيها من عمق إنساني ودرامي.

وعلى الرغم من أن هذا النوع من الأعمال يستغرق عادة من أسبوعين إلى شهر، فقد أنجزت الماسك في ساعة ونصف فقط، لأنني كنت أعمل بكل تركيزي، مدفوعًا برغبة واحدة: أن تحمل الملامح هوية الملك لير كما عاشها الجمهور على خشبة المسرح.

أما عن خامات التنفيذ، فقد اخترت أن تكون قريبة من ملمس تماثيل الشمع، رغم إمكانياتي المحدودة، كان في وسعي أن أستخدم النحاس أو الطين، لكنني فضّلت خامة تمنح التمثال حسًّا واقعيًا ودافئًا في الوقت ذاته.

أما الملابس، فقد اخترتها بنفسي من مخازن المسرح القومي بعد الحصول على موافقة المسؤولين، لتتناسب مع الحقبة الزمنية التي تدور فيها المسرحية، وتخدم حضور الشخصية على أكمل وجه، حتى الكرسي كان من مخزن المسرح، وأنا من صممت التاج بيديّ ليكتمل المشهد في تناغم بصري واحد.

وفيما يخص هيكل الجسد، اقترحت استخدام جزء من مانيكان، ثم أعدت تشكيله وحشوه بخامات وتفاصيل دقيقة ليحاكي هيئة الدكتور يحيى الفخراني، وكأن التمثال ينبض بواقعيته.

يمكنني القول إن العمل بأكمله كان أشبه بعملية "إعادة تدوير فنية" للخامات المتاحة، لكن بروح جديدة خرجت من قلب محب لفنه ومؤمن بفكرته.

لقد صُنِع هذا التمثال بلا أي رفاهية في الأدوات أو المواد، بل بحب خالص للفن، وامتنان عميق للدكتور يحيى الفخراني الذي أكنّ له تقديرًا كبيرًا، أردت أن أعبّر عن هذا التقدير بطريقتي الخاصة، وأن أخلّد لحظة فنية وإنسانية تجسّد شغفي، وتقدّر قيمة رمز كبير من رموز المسرح المصري.

أحب أن أوجّه خالص الشكر والتقدير إلى المخرج شادي سرور، وإلى الأستاذ أحمد شاكر حامد، المدير المالي للمسرح القومي، والدكتور أيمن الشيوي مدير المسرح القومي، والمهندس مصطفي التهامي مدير دار العرض على دعمهم وثقتهم وتشجيعهم الصادق الذي منحني الدافع لأحوّل الفكرة إلى واقع.

هل الفنان القدير  يحيى الفخراني كان بعلم بفكرة التمثال؟ أم كانت مفاجأة له؟

كانت مفاجأة كاملة له، ما كانش عارف إني بجهّز التمثال،ولما شافه لأول مرة، ضحك وقال: "أنا أهو" وكان مبسوط جدًا بالشبة وبالتفاصيل، دكتور يحيى من الناس الصريحة جدًا، وده خلاني أفرح أكتر بكلامه لأنه دايمًا بيقول رأيه بصراحة، وكمان هو من الشخصيات اللي بتحب تشجع اللي حواليها ومتـواضع لأقصى درجة.

هل كانت التجربة مجرد تنفيذ لفكرة، أم رسالة شخصية؟

كانت رسالة في المقام الأول، أردت أن أقول إن الفنان يستطيع أن يُبدع حتى من العدم، وإن الإمكانيات ليست عائقًا بل دافعًا.، نفّذت التمثال من خامات بسيطة جدًا، لكنّي كنت مؤمنًا أن الصدق وحده كفيل أن يمنح له حياة.

ما الذي دار في ذهنك في اللحظة الأولى التي بدأت فيها التنفيذ؟

كنت أستحضر المشاهد التي قدمها الدكتور يحيى الفخراني على المسرح، وحالة الانكسار الإنساني التي يعيشها "الملك لير". كنت أريد أن أجعل الجماد يتنفس تلك الحالة، أن تكون ملامحه حكاية عن الدهشة والصدمة والوقار في آنٍ واحد، 

الملك لير شخصية تقيلة ومليانة عمق وجع وحكمة ودهشة وصدمة' كيف تعاملت معها أثناء تشكيل التمثال؟

أنا لا أتعامل مع الشكل فقط، بل مع ما وراء الملامح،ركّزت على ملامح الوجة منقسمة لنصفين ،حاولت أن أجسّدصراعة،وانكساره ودهشتة،وأيضا هيبتة كملك،التركيز على ملامح الوجة كان أهم شئ بالنسبة لى .

هل كان "الفخراني" بالنسبة لك وجهًا فنيًا فقط أم حالة وجدانية؟

بصراحة، حالة وجدانية. الدكتور يحيى الفخراني بالنسبة لي ليس مجرد ممثل، بل مدرسة في الصدق الفني،كنت أشعر وأنا أعمل على التمثال أني أقدّم تحية شخصية لإنسان شكّل وجداننا كمصريين.


من بين كل تفاصيل ملامحه ما أكثر ما استوقفك؟

التجاعيد حول العينين، فيها حكاية عمرٍ طويل من العطاء والتعب والحكمة، كنت أتعامل معها كخرائط للروح، لا كخطوط وجه.

نفّذت العمل من أبسط الإمكانيات كيف استطعت أن تجعل من القلة مصدر قوة؟

البساطة تُجبرك على الإبداع، عندما لا تملك إلا نفسك، تكون أقرب للصدق لم يكن هناك أدوات فخمة أو تمويل ضخم، فقط شغف وحلم،وهذا ما جعل التجربة نقية جدًا.

ما المواد التي صُنِع منها التمثال؟

استخدمت خامات متاحة وبسيطة جدًا، لكني حرصت أن أُخرج منها إحساسًا واقعيًا،اعتمدت على مزيج من خامات النحت التقليدية مع بعض المواد الخفيفة التي تسهّل التشكيل.

هل واجهت لحظات يأس أو رغبة في التوقف؟

طبعًا كانت هناك لحظات صعبة، لكنّي كنت أرى "لير" أمامي دائمًا كقوة تحفّز حلمى على الاستمرار .

ما أول رد فعل وصلك بعد عرض التمثال في المسرح القومي؟

أول رد فعل كان مزيج من الدهشة والانبهار، الناس كانت واقفة قدام التمثال مش مصدقة إنه معمول بإمكانيات بسيطة جدًا،وسمعت تعليقات كلها فخر وفرحة، خصوصًا لما شافوه شبه د. يحيى الفخراني بدرجة كبيرة، اللحظة دي كانت أهم مكافأة ليا، حسّيت إن كل التعب راح، وإن الفن فعلًا بيكافئ اللي بيخلص له.

كيف رأيت رد فعل الجمهور حين مرّوا أمام التمثال لأول مرة؟

كان هناك صمت جميل، نظرات فيها دهشة وفرح، شعرت أن كل من يقف أمام التمثال يبتسم لي ولـ"لير" في آنٍ واحد .

هل تفكر في تكرار التجربة فى عروض أخرى ، أم أن "الملك لير" حالة لا تتكرر؟

الحقيقة، "الملك لير" حالة خاصة جدًا لكنني لا أنكر أن الحلم اتسع بعدها هناك رموز كثيرة تستحق أن تُخلّد على خشبة المسرح ، أتمني أكرر التجربة لخلق ذكري حيه ،تجسد فن وهيبة المسرح وتترك ذكري جميلة خلفها .

ما الرسالة التي أردت أن ينطق بها هذا التمثال؟

أن الفن لا يموت، وأن المخلصين للمسرح لا يُنسَون، أردت أن يكون التمثال شاهدًا على أن الإبداع الحقيقي يمكن أن يولد من أبسط الأشياء.

أستاذ إسلام شايف الفن إزاي في علاقته بالذاكرة؟ هل هو مقاومة للنسيان؟

أكيد، الفن في جوهره هو أعظم وسيلة لمقاومة النسيان،الفن بيخلّد اللحظة، الوجع، الحلم، والإنسان، الذاكرة ممكن تضعف أو تتلاشى، لكن العمل الفني بيحفظ الملامح والروح زي ما هي، كأنه بيوقف الزمن عند لحظة معينة وبيقول: "دي ماينفعش تتنسى".

أنا بشوف إن كل لوحة أو تمثال أو مشهد أو كلمات وموسيقي أغنية،أوغلاف كتاب وأقتباس أديب هو محاولة إنسانية نبيلة علشان نخلّد أثرنا ونواجه زحف النسيان، علشان كده الفن مش بس متعة بصرية أو وجدانية، هو شهادة وذاكرة لا تموت.

التمثال صامت بس بيحكي كتير إيه الرسالة اللي كنت عايزه يوصلها للناس؟

كنت عايز التمثال يوصل إحساس بالهيبة والعظمة اللي في شخصية الملك لير،ويفكر الناس قد إيه الفن الحقيقي بيعيش حتى بعد ما العرض يخلص،التمثال مش مجرد شكل هو رسالة عن الوفاء للفن،وعن إن كل تفصيلة اتعملت بحب واحترام كبير للدكتور يحيى الفخراني ولتاريخ المسرح المصري.

ماذا تقول لكل فنان شاب يحلم لكنه يخاف من البدايات الصغيرة وعدم توفير الإمكانيات؟

ابدأ الآن، وبما في يدك، الفن لا ينتظر الظروف، بل يخلقها، لا تخف من البساطة، ففيها المعنى الحقيقي للإبداع.

ناس كتير بتحلم تعمل حاجة تخلّد رموز الفن، بس قليل اللي بينفّذ فعلًا إيه اللي شجعك تبدأ رغم بساطة الإمكانيات كما ذكرت؟

اللي شجعني أبدأ رغم بساطة الإمكانيات هو حبي الحقيقي للفن، وإيماني إن الإبداع مش محتاج أدوات غالية قد ما محتاج قلب صادق وشغف حقيقي، أنا دايمًا مؤمن بمقولة: "حبَّ ما تعمل، حتى تُبدِع فيما تُحب."

من وجهة نظرك، الفن محتاج تمويل ضخم؟ ولا الفكرة نفسها هي اللي بتحرك الفنان؟

 التمويل فهو عامل أساسي لانة بيضيف جودة وتنفيذ أدق، لكنه عمره ما يصنع الإبداع من غير فكرة حقيقية تلهم صاحبها وتدفعه يكمّل الطريق، من وجهة نظري، الفكرة هي المحرك الحقيقي للفنان، وبعدها التمويل .

لوطلبت منك تنحت "الإنسان المصري" في تمثال واحد هتعمله شكله عامل إزاي؟

"هيكون تمثال عملاق مش بالحجم، لكن بالمعنى.. تمثال يملك من الجمال والفن والإنسانية ما يخلّينا دايمًا فاكرين إننا أصل الإبداع، وجذر الفن في العالم' هيكون وجهه بسيط زي أهلنا، لكن في ملامحه كبرياء التاريخ وعظمة الحضارة،تمثال يذكّرنا بإنسانيتنا قبل أي حاجة،ويدعونا نحافظ عليها، لأنها جوهرنا الحقيقي.

وأخيرًا، بعد نجاح تمثال "الملك لير" إيه الحلم الجاي لإسلام عباس؟

أنا دايمًا عندي أحلام، وعمري ما بطّلت أحلم،كل عمل بخلصه بيولد في قلبي حلم جديد، يمكن يكون تمثال، أو فكرة، أو حالة فنية مختلفة تمامًا' المهم إنّي أفضَل دايمًا في حالة شغف لأن الفنان لو بَطّل يحلم، بيموت جزء منه .

الختام

بين أصابع "إسلام عباس" يولد الإبداع، من قلب الحكايات عن الوفاء للفن، عن الإيمان بالحلم، عن الصدق حين يتحوّل إلى ملامح يمكن لمسها.

تمثال "الملك لير" ليس عملًا نحتيًا وحسب، بل قصيدة صامتة كتبها فنان مصري بيده ليقول لنا جميعًا:

"الفن لا يُقاس بالإمكانيات، بل بالروح التي تصنعه."



اضف تعليق

أحدث أقدم

تحديثات